فصل: مسألة حكم من شتم نبيا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة أعراب قطعوا الطريق:

وسئل ابن القاسم عن اللص يولي مدبرا أيتبع؟ فقال: إن كان قتل فنعم يتبع ويقتل، وإن لم يكن قتل، فلا يعجبني أن يتبع ولا يقتل، قال: والأسير من اللصوص يستتاب، وإلا قتل، وإن يبلغ به الإمام، وهو رأي مالك إذا كان قد استوجب القتل قتل، قلت لابن القاسم: قل يستوجب القتل وإن لم يقتل؟ قال: ذلك أشكل، ولا يقتله إلا الإمام إذا اجتهد الرأي، قلت له: أرأيت إن كان بعضهم قتل؟ فقال: إذا قتل واحد منهم، فقد استوجبوا القتل جميعا، لو خرج مائة ألف فقتل واحد منهم قتلوا كلهم، وسئل سحنون عن اللصوص إذا ولوا أيتبعوا؟ فقال: نعم، يتبعون لو بلغوا برك الغماد، قيل لسحنون: فلو أن لصا أو محاربا عرض لي فجرحته، أو ضربته بشيء فأسقطته، أترى أن أجهز عليه؟ فقال: نعم، فأعلمته بقول ابن القاسم أنه يجهز عليه فلم يره شيئا، وقال: قد حل حين عرض ونصب الحرب وقطع الطريق وأخاف السبيل.
قال محمد بن رشد: جهاد المحاربين عند مالك وجميع أصحابه جهاد، قال أشهب عنه: من أفضل الجهاد وأعظمه أجرا، وقال مالك في أعراب قطعوا الطريق: إن جهادهم أحب إلي من جهاد الروم، وقد قال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ومن قتل دون ماله فهو شهيد» فمن قتل دون ماله ومال المسلمين فهو أعظم لأجره، واستحب أن يدعو إلى التقوى والكف، فإن أبوا قوتلوا، وإن عاجلوا قوتلوا، وأن يعطوا الشيء اليسير إذا طلبوا مثل الثوب والطعام وما خف، ولا يقاتلوا، ولم ير سحنون أن يعطوا شيئا، وإن قل، ولا أن يدعوا وقال: هذا أوهن يدخل عليهم، وليظهر لهم الصبر والجلد والقتال بالسيف، فهو أكثر لهم وأقطع لطمعهم، ذهب في ذلك كله مذهب ابن الماجشون، وقول مالك أحسن، والله أعلم.
واختلف إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل، فقيل: له الأمان له، وقيل: لا أمان له، ويقام عليه حد الحرابة، إنما يؤمن المشرك على أن يؤدي الجزية، ويكون على الذمة، وتأمين المحارب إنما هو على أن يعطل حدود الله تعالى في إقامة الحد عليه، وكره ابن القاسم في هذه الرواية أن يتبع اللص إذا ولى مدبرا فيقتل، إلا أن يكون قد قتل، وأن يجهز عليه إذا جرح، ولم يكن قتل، وأجاز ذلك كله سحنون، بل استحسنه، ومعنى ذلك إذا ولى هاربا وأمن رجوعه، وأما إن لم يؤمن رجوعه فلا اختلاف في أنه يتبع ويقتل، وما ذهب إليه سحنون هو القياس، وقول ابن القاسم استحسان.
ولا اختلاف في أنه إذا قتل واحد منهم فقد استوجبوا القتل كلهم.
ولا في أن كل واحد منهم ضامن لجميع ما أخذوا من المال، يتبع من وجد منهم بذلك في ذمته إن لم يكن له مال، إن كان لم يقم عليه حد الحرابة، وإن كان أقيم عليه حد الحرابة، ولم يوجد عنده المال بعينه، فلا يتبع به إذا وفره متصلا، حكمه في ذلك حكم السارق سواء.
والآية في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة: 33] الآية عند مالك رَحِمَهُ اللَّهُ على التخيير لا على الترتيب، والإمام مخير عنده في المحارب إذا أخاف السبل، ولم يأخذ مالا، ولم يقتل بين أن يقتله وأن يصلبه أو يقطعه بخلاف، أو يجلده أو ينفيه، وليس معنى تخييره في ذلك أن يعمل فيه بالهوى، وإنما معناه أن يتخير من العقوبات التي جعلها الله جزاءه ما يرى أنه أقرب إلى الله، وأولى بالصواب، فكم من محارب لم يقتل هو أضر على المسلمين ممن قتل في تدبيره وتأليبه على قطع طرق المسلمين، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد فيه قتله وصلبه؛ لأن القطع لا يدفع ضرره عن المسلمين، وإن كان ممن لا رأي له، ولا تدبير، وإنما يخوف ويقطع السبيل بذاته، وقوة جسمه قطعه من خلاف ولم يقتله؛ لأن ذلك يقطع ضرره عن المسلمين، وإن لم يكن على هذه الصفة، وأخذ بحضرة خروجه أخذ فيه بأيسر ذلك، وهو الضرب والسجن.
وإن قتل فلابد من قتله، ويخير بالاجتهاد بين صلبه أو قتله، وإن لم يقتل وأخذ المال، فلا تخيير للإمام في نفيه، وإنما يخير الإمام بالاجتهاد بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، ومعنى ما وقع في المدونة من أن من نصب نصبا شديدا، وعلا أمره، وطال زمانه قتله الإمام، ولم يكن له في ذلك خيار، معناه أن هذا هو الذي ينبغي للإمام أن يختاره، ويأخذ به في مثل هذا، فلا يكون قوله على هذا التأويل خلافا لمذهبه في أن الآية عنده على التخيير.
ويروى برك الغماد بكسر الغين، وبرك الغماد بضمها، وكذلك وقع في الدلائل في حديث أبي بكر أنه خرج مهاجرا قبل أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد، وذكر الحديث، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول وهو مغضب لا صلى الله على من صلى عليه:

ولابن لبابة قال: حدثني عبد الأعلى، عن أصبغ في الرجل يكون له على الرجل دين، فيلزمه حتى يغضب، فيقول له الغريم: صل على محمد، فيقول صاحب الدين وهو مغضب: لا صلى الله على من صلى عليه، هل ترى على هذا القتل، وتراه كمن شتم النبي، وشتم الملائكة الذين يصلون عليه؟ فقال: لا، إذا كان على ما وصفت على وجه الغضب؛ لأنه لم يكن مضمرا على الشتم، وإنما لفظ بهذا على وجه الغضب، ولا يكون عليه القتل.
قال محمد بن رشد: سقطت هذه المسألة من بعض الروايات، ووقعت في بعض الروايات من قول سحنون، قيل له: أرأيت، وكذلك ذكرها ابن أبي زيد في النوادر على أنها من كلام سحنون، وأنها من أصل المستخرجة، ووصل بها قال يحيى وأبو إسحاق البرقي: لا يقتل لأنه شتم الناس، وذهب الحارث وغيره في مثل هذا إلى القتل، وقوله: لا صلى الله على من صلى عليه؛ يحتمل أن يريد به لا صلى الله على من يصلي عليه، فمن حمله على ذلك بدليل قوله صلى عليه؛ لأن قوله: لا صلى الله على من صلى عليه، خرج جوابا عليه لم ير عليه القتل؛ لأنه إنما شتم الناس كما قال أصبغ، وأبو إسحاق البرني، فيما حكى عنهما ابن أبي زيد، ويحمل أن يؤيد بقوله: لا صلى الله على من صلى عليه، ولا صلى الله على من قد صلى عليه، وعلى ذلك حمله الحارث وغيره، فلذلك رأوا عليه القتل ولم يعذره واحد منهم بالغضب كما عذره به أصبغ في الرواية، فلم ير عليه القتل، ويأتي على مذهبه أن عليه الأدب، وكذلك يجب الأدب عليه أيضا على مذهب من يرى أنه إنما شتم الناس؛ لأن في شتم من يصلي على النبي من الناس سبب من الإخلال بحقه، وبالله التوفيق.

.مسألة حكم من شتم نبيا:

وكل من شتم نبيا قتل، قلت: فإن تاب عن الشتم، وقال: أتوب إلى الله، وأكون كمن أسلم الساعة ولا أعود؟ قال: لا توبة إلا لمن كان نصرانيا، قلت: فإن شتم نبيا غير النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ شتم نبيا غيره موسى أو هارون أو عيسى، أو أحدا من الأنبياء؟ قال: عليه القتل، قلت: فإن شتم ملكا من الملائكة؟ قال: عليه القتل.
قلت: فإن شتم أحدا من أصحاب النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا أو معاوية أو عمرو بن العاص؟ فقال: أما إذا شتمهم، وقال: إنهم كانوا على كفر وضلال قتل، وإن شتمهم بغير هذا كما يشتم الناس رأيت أن ينكل نكالا شديدا.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا إشكال فيه، وقد مضى نحوه في هذا الرسم، وفي رسم شهد، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة قال جبريل أخطأ في الوحي:

قلت: فإن قال: إن جبريل أخطأ في الوحي، وإنما كان النبي علي بن أبي طالب إلا أن جبريل أخطأ بالوحي هل يستتاب، أم يقتل ولا يستتاب؟ قال: يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قال محمد بن رشد: هذا من البدع التي هي كفر صريح، فلا يختلف في أن من قال ذلك كافر، فلا يستتاب إلا إذا كان معلنا بذلك، وأما إذا كان مستسرا به، فهو بمنزلة الزنديق يقتل بلا استتابة، بخلاف أهل البدع مثل القدرية والمعتزلة وشبههم، الذين يستتابون أسررا بدعتهم أو أعلنوا بها، فإن تابوا لم يكن عليهم شيء، وإن لم يتوبوا قتلوا على مذهب من يكفرهم بما لقولهم، وضربوا أبدا على مذهب من مر أنهم لا يكفرون بما لقولهم حتى يتوبوا حسبما مضى فوق هذا في هذا الرسم، وبالله التوفيق.

.مسألة زعم أنه نبي يوحى إليه هل يستتاب:

قلت: فلو أن رجلا تنبأ، وزعم أنه نبي يوحى إليه هل يستتاب؟ قال: نعم، يستتاب فإن تاب من ذلك وإلا قتل.
قال محمد بن رشد: لم يقل هاهنا: إنه يستتاب على ذلك إن استسر به، ودعا إليه في السر كما قال قبل هذا، والصواب أن يحمل قوله هاهنا على أنه أعلن بذلك، ولذلك رأى أن يستتاب، بخلاف إذا دعا إلى ذلك بالسر حسبما ذكرناه فوق هذا من أنه هو القياس.

.مسألة قول عند العجب بالشيء صلى الله على محمد:

قيل لسحنون: أرأيت الرجل يقول عند العجب بالشيء صلى الله على محمد النبي وسلم هل يكره ذلك؟ قال: نعم، مكروه، ولا يجوز أن يصلي على النبي إلا في موضع الاحتساب، ورجاء ثواب الله عز وجل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة المرتد عن الإسلام يقتل مسلما أو نصرانيا أو عبدا خطأ أو عمدا:

ومن كتاب العتق:
قال: وقال مالك في المرتد عن الإسلام يقتل مسلما أو نصرانيا أو عبدا خطأ أو عمدا، أو يجرح بعضهم، أو يسرق، قال: لا يستتاب، فإن لم يرجع للإسلام قتل، فكان القتل يأتي على جميع ما كان منه إلا الفرية، وإن راجع الإسلام اليم عليه ما يقام عن المسلمين فيما وصفت كله، إن كان خطأ حملته العاقلة عنه إن كان مما تحمل، وإن كان عمدا أقيم ذلك عليه، واقتص منه إن كان الذي أصاب به مسلما، وإن كان نصرانيا حكم بينهما بما يحكم به بين المسلم والنصراني في جميع الأشياء، وكذلك إن قذف أو سرق، وكل ما كان منه في الارتداد فهو بمنزلة ما كان منه قبل الارتداد إذا راجع الإسلام.
وإن قذفه رجل في ارتداده، فلا حد على القاذف رجع المرتد إلى الإسلام، أو قتل على ارتداده إن كان إنما قذفه في ارتداده، وإن كان إنما قذفه قبل ارتداده، فإن رجع إلى الإسلام أخذ له بحده، وإن قتل على ارتداده فلا حد له.
وإن كان حج قبل ارتداده كان عليه أن يحج حج الإسلام ثانية.
وإن كانت له امرأة حين ارتد لم يرجع إليها إلا بنكاح جديد بعد إسلامه، فيكون ارتداده تطلقه بائنة.
قال محمد بن رشد: قوله فإن لم يراجع الإسلام قتل فكان القتل يأتي على جميع ما كان منه يريد ويؤخذ من ماله قيمة العبد الذي قتل؛ لأنه إنما سقط عنه بقتله على الارتداد ما كان في بدنه من القصاص في الجرح والقطع في السرقة، ولا يكون ذلك في ماله على قياس قول سحنون الذي يرى أنه محجور عليه في ماله بنفس الارتداد، وإلى هذا ذهب الفضل، وأما جناياته الخطأ التي تحملها العاقلة فاستحسن أصبغ أن يعقلها عنه المسلمون؛ لأنهم يرثون ماله.
وأما قوله: إنه إن راجع الإسلام أقيم عليه ما يقام على المسلمين فيما وصفت كله إلى آخر قوله فهو مثل ما تقدم في رسم لم يدرك من سماع عيسى على قياس القول بأن ما جنى المرتد في حال ارتداده ثم أسلم ينظر فيه إلى حاله يوم الحكم في القود والدية، وقد روى عن ابن القاسم أنه إنما ينظر إلى حاله في ذلك يوم الفعل، لا يوم الحكم، فيقتل بمن قتل مسلما كان أو نصرانيا؛ لأنه كان كافرا يوم الفعل، والكافر يقتل بالكافر والمسلم، وعلى هذا يأتي ما قاله في رسم الصلاة من سماع يحيى بعدها: إنه إن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين؛ لأنهم هم كانوا ورثته يوم الجناية، ولا عاقلة له يومئذ، وقد روى عن سحنون مثل هذا القول وروى عنه أيضا أن دية ما قتل خطأ تكون في ماله؛ إذ لا عاقلة له يومئذ، وهو على خلاف أصله في أنه محجور عليه في ماله بنفس ارتداده.
يتحصل في دية من قتل المرتد خطأ إذا أسلم ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك على عاقلته. والثاني: أن ذلك على جماعة المسلمين. والثالث: أن ذلك في ماله، وفي المسألة قول رابع، روي عن أشهب أن ديته على أهل الدين الذي ارتد إليه.
قال أشهب: ولو جنى معاهد على أحد خطأ كانت الدية في ماله، بخلاف الأول، وقع ذلك من قوله في النوادر.
وأما ما جنى خطأ قبل أن يرتد، فإن راجع الإسلام كانت جنايته على العاقلة قولا واحدا، وأما إن قتل على ردته فيتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أن ذلك على العاقلة؛ لأنه يوم جنى كانت له عاقلة. والثاني: أنها على جماعة المسلمين؛ لأنهم هم ورثته.
وقوله: إن قذفه أحد قبل ارتداده أخذ له بحده إن راجع الإسلام بخلاف إذا قذفه أحد وهو مرتد، هو خلاف ما في المدونة من أنه إذا قذفه وهو مسلم ثم ارتد فهو بمنزلة إذا قذفه وهو مرتد لا يحد إن راجع الإسلام، وعلى هذا الاختلاف يأتي ما قاله سحنون في كتاب ابنه: لو أن رجلا مسلما جنى على مسلم، ثم ارتد المجني عليه عن الإسلام، ثم رجع إلى الإسلام، فإن فيه تنازعا بين أصحابنا، ففي قول أشهب: إن لورثته أن يقسموا ويقتلوا الجاني، وفي قول غيره: إن أحبوا أن يقتصوا من الجرح فذلك لهم، وإن أحبوا أن يقسموا ويقتلوا فليس ذلك لهم؛ لأن القصاص قد امتنع بارتداده، وإن أحبوا أن يقسموا ويأخذوا الدية فذلك لهم، فما حكى سحنون عن أشهب يأتي على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية، وما حكى عن غيره ينحو إلى ما في المدونة؛ لأنه جعل ارتداد المجني عليه شبهة يسقط بها القصاص بالقسامة عن الجاني كما يسقط الحد في القذف عن القاذف، وكان القياس على ما في المدونة، ألا يكون لهم أرش الجرح كما لو جرحه وهو مرتد.
وأما قوله: وإن كان حج قبل ارتداده كان عليه أن يحج حج الإسلام ثانية، فهو مثل قوله في النكاح الثالث من المدونة؛ لأن الأعمال تحبط بنفس الكفر، وإن راجع الإسلام على ظاهر قول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
وقد قيل: إن الأعمال لا تحبط بالكفر إلا مع شرط الموافاة؛ بدليل قوله عز وجل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ} [البقرة: 217] الآية، وهو قول ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية، من كتاب الوضوء؛ لأنه استحب لمن توضأ ثم ارتد، فراجع الإسلام أن يعيد الوضوء ولم يوجب ذلك، وقد زدنا هذه المسألة هناك بيانا، ولهذا الاختلاف أشار في المدونة بقوله: وهذا أحسن ما سمعت فأسمعت، وقال فيها على قياس قوله: إن الحج لا يجزيه أنه لا يلزمه قضاء ما ضيع من الفرائض، وبدليل قوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وأوجب أصبغ عليه قضاء ما صنع من الفرائض، وخالفه في ذلك ابن حبيب، وقال فيه وفي الحج كقول ابن القاسم: إنه لا يجزئ الحج ولا يجب عليه قضاء ما ترك وضيع من الفرائض.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يجزيه ما ضيع من الفرائض، ولا يلزمه قضاء ما ترك منها، وهو قوله في المدونة، واختيار ابن حبيب. والثاني: أنه يجزيه ما ضيع ويلزمه قضاء ما ترك وضيع، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في سماع موسى من كتاب الوضوء. والثالث: تفرقة أصبغ بين الوجهين، فلا يجزيه الحج، ويلزمه قضاء ما ضيع، ووجه هذه التفرقة الاحتياط والاسحتسان مراعاة للخلاف.
ومذهب ابن القاسم في ذلك أن الردة تسقط الأيمان بالطلاق وبالعتق وبالظهار، والإحصان لو تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم ارتد أو ارتدت، ثم راجعا الإسلام قريبا بعد الإسلام لم يرجما، فكذلك على مذهبه لو طلقت امرأة ثلاثا، فتزوجها زوج ودخل بها، ثم ارتدت ثم أسلمت، لم تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثا حتى تتزوج بعد الردة؛ ولا يسقط الطلاق ولا العتق إذا وقعا بيمين أو بغير يمين، لو طلق رجل امرأة ثلاثا بيمين أو بغير يمين، ثم ارتد ثم تاب لم تحل له إلا بعد زوج، وقال إسماعيل القاضي: إنها تحل له قبل زوج، وهو مذهب أبي حنيفة أن الردة تسقط حد الزنا وشرب الخمر، ولا تسقط حد السرقة، ولا حد القذف.
وقال أصبغ، واختاره ابن حبيب: إنها لا تسقط شيئا من الحدود كما لا تسقط الطلاق ولا العتق ولا اليمين؛ لأنه يتهم على أن يرتد في الظاهر ليسقط ذلك عنه.
واختلف على مذهب ابن القاسم في الظهار، فقيل: إنه يسقط عنه بالارتداد، حنث فيه بالوطء أو لم يحنث على ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنه إن حنث سقطت عنه الكفارة بالارتداد، وإن لم يحنث فيه لزمه ولم يسقط عنه.
ولا اختلاف في أنه لا يسقط بارتداده تحصين من حصنه من النساء، ولا تحليل من حلله منهن، مثل أن يتزوج امرأة ثم يرتد وتزني هي، أو يتزوج امرأة مطلقة ثلاثا فيحلها لزوجها ثم يرتد، أن تحليله إياها لزوجها لا يسقط.
وأما قوله: وإن كانت له امرأة حين ارتد لم يرجع إليها إلا بنكاح جديد بعد إسلامه يكون ارتداده تطليقة بائنة، فمثله في المدونة، وقد روي عن مالك أن ارتداده طلقة رجعية يكون أحق بها إن أسلم في عدتها، وقع ذلك في بعض الروايات من كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وقد روى ذلك عن سحنون في ارتداد الزوجة، وفي الثمانية لابن الماجشون أنه فسخ بغير طلاق.
فيتحصل في ارتداده أحد الزوجين ثلاثة أقوال، وسنذكر هذا في رسم الأقضية، من سماع يحيى بعد هذا، وأصبغ يفرق بين أن تكون زوجته مسلمة أو ذمية فيقول: إنه إن كانت زوجته نصرانية فارتد إلى النصرانية؛ أنه يكون أحق بها إن أسلم، وكذلك إن كانت يهودية فارتد إلى اليهودية تكون زوجته إذا أسلم، وبالله التوفيق.

.مسألة نصراني صلى بقوم من المسلمين وهم لا يعلمون:

من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصلاة قال يحيى: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في النصراني يصحب القوم فيصلي بهم أياما، ثم يتبين لهم أمره: إنهم يعيدون كل صلاة صلاها بهم في الوقت وفي غيره، قيل لمالك: أفيقتل بما أظهر من الإسلام عليه، ومن إخفاء الكفر؟ قال: لا أرى ذلك عليه.
وسئل سحنون عن نصراني صلى بقوم من المسلمين وهم لا يعلمون، ثم تبين أنه نصراني، فقال: إن كان النصراني إنما كان في موضع يخاف فيه، فدارى بذلك على نفسه وعلى ماله، فلا سبيل إليه، ويعيد القوم صلاتهم، وإن كان في موضع يكون فيه آمنا، فإنه يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم لم يكن على القوم إعادة وصلاتهم تامة، وإن لم يسلم ضربت عنقه وأعاد القوم صلاتهم.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية: إنه لا يقتل بما أظهر من صلواته ظاهره، وإن كان في موضع هو فيه آمن على نفسه، ووجه ذلك أنه رأى صلاته بهم مجونا وعبثا، فيجب عليه بذلك الأدب المؤلم ولا يقتل، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون مثل قول ابن القاسم في الإعادة أبدا، وقالا: إن ذلك منه إسلام، ولا حجة له إن قال: لم أرد به الإسلام، وسواء على قولهما كان في موضع هو فيه آمن على نفسه، أو في موضع يخاف فيه على نفسه، فدارى بذلك عليها مثل قول أشهب في رسم الأقضية بعد هذا من هذا السماع، وتفرقة من قول ابن القاسم في أول رسم من سماع عيسى، وبين قوله وقول ابن وهب، وفرق سحنون بين أن يكون في موضع هو فيه آمن على نفسه، أو في موضع يخاف فيه على نفسه في هل يعد ذلك منه إسلاما يقتل على الخروج منه إن لم يعد إليه، هو أظهر الأقوال في هذه المسألة على ما تقدم في رسم الأقضية من هذا السماع بعد هذا، وأما تفرقة سحنون في إيجاب إعادة الصلاة على القوم إذا كان في موضع هو فيه آمن على نفسه بين أن يجيب إلى الإسلام أو لا يجيب فهو استحسان، ووجهها أنه إذا لم يجب إلى الإسلام اتهمه فيما أظهر من إسلامه بصلواته، وإذا أجاب إليه لم يتهمه عليه، والقياس إذا عدت صلاته بهم إسلاما يستتاب عليه إن رجع عنه، ألا يجب على القوم إعادة صلاتهم، أجاب إلى الإسلام أو لم يجب.

.مسألة المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام ثم قتل رجلا:

قال يحيى: قال ابن القاسم في المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام ثم قتل رجلا: أقيد منه، والعفو للأولياء في ذلك مثله لهم في غيره، وإن ارتد ولحق بدار الشرك، فعدى على رجل من المسلمين فقتله، وكان فيمن يخرج على المسلمين من العدو وفر، ثم ظفر به المسلمون، فعلى الإمام أن يقتله ولا يستبقيه ولا يجعل أمره إلى الأولياء الذين قتل من المسلمين؛ لأن أمره كأمر المحارب الخارج على المسلمين بالسلاح، وهو يقتل ولا يستتاب كاستتابة المرتد في دار الإسلام، ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه ما لم يسلم، قال: وإن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين، وإن قتل هو خطأ فعقله لجميع المسلمين، وإن قتل عمدا تعديا عليه في عداوة أو نائرة كان على قاتله العقل في خاصة ماله، ويكون ذلك العقل لجميع المسلمين.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام، ثم قتل رجلا؛ أنه يقاد منه، والعفو فيه للأولياء مثله لهم في غيره صحيح، لا اختلاف في أن الارتداد لا يسقط عليه شيئا من حقوق الناس في الدماء ولا في الأموال، وقد مضى في رسم العتق، من سماع عيسى قبل هذا تحصيل القول فيما يسقط عنه الارتداد مما لا يسقط عنه، فلا وجه لإعادته.
وقوله: إنه إذا ارتد ولحق بدار الشرك، فكان ممن يخرج على المسلمين، ثم ظفر به المسلمون؛ أنه يقتل ولا يستتاب كاستتابة المرتد في دار الإسلام، ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه ما لم يسلم، فإن أسلم لم يقتل وهدر عنه كل ما أصابه من الدماء والأموال في حال ارتداده على ما روى عيسى، عن ابن القاسم، في رسم أسلم وله بنون صغار من كتاب الجهاد، وقد مضى الكلام عليه هنالك.
وقوله: وإن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين، قد مضى الكلام عليه، وتحصيل القول فيه في رسم العتق، من سماع عيسى قبل هذا، وفي رسم لم يدرك منه، فلا وجه لإعادته.
وقوله: وإن قتل عمدا تعديا عليه في عداوة أو نائرة، فالعقل للمسلمين، فهذا أمر لا اختلاف فيه؛ لأن المسلمين يرثونه، فهم يأخذون ديته على مذهب من يوجب فيه دية، وبالله التوفيق.

.مسألة المرتد يقتل عمدا:

قال سحنون في المرتد يقتل عمدا: إنه لا دية له ولا قصاص على قاتله، إلا الأدب من السلطان بما افتات عليه، وقد كان عبد العزيز بن أبي سلمة يقول: يقتل المرتد ولا يستتاب، ويذكر أن أبا موسى الأشعري وقف على معاذ بن جبل، وأمامه مسلم تهود، فقال له معاذ: انزل يا أبا موسى، فقال: لا والله لا نزلت حتى يقتل هذا، فلو رأى عليه استتابة ما قاله، ولو رأيت له الاستتابة لرأيت ذلك في المحارب والزاني المحصن، وذنبهما أيسر خطبا من المرتد.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، تحصيل القول في استتابة المرتد، فلا معنى لإعادته، ومضى في نوازل سحنون من كتاب الديات القول فيما يجب على قاتل المرتد عمدا، لتكرر المسألة هناك، وأن في ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا دية له، وهو قول سحنون، وروي مثله عن أشهب أيضا. والثاني: أن ديته دية مجوسي، وهو قول البرني، وحكاه عن أشهب وابن القاسم، وحكى سحنون عن أشهب أن عقله عقل الدين الذي ارتد إليه، وقد روى عن ابن القاسم مثل ذلك، وذكرنا هناك وجه الاختلاف في ذلك، فلا وجه لإعادته.

.مسألة المرتد إذا جرح في ارتداده عمدا أو خطأ:

قال ابن القاسم: إذا جرح المرتد في ارتداده عمدا أو خطأ، فإن عقل جراحاته للمسلمين إن قتل، وله إن تاب، وعمد من جرحه كالخطأ لا يقتص ممن جرحه، قلت: فإن كان جارحه عمدا نصرانيا؟
قال: لا قود؛ لأنه ليس على دين يقر عليه، فعمد من أصابه بجرح خطأ يعقل ولا يقاد، أصابه بالجرح مسلم أو غير مسلم.
قال محمد بن رشد: قوله في المرتد إذا جرح في ارتداده عمدا أو خطأ، إن عقل جراحاته للمسلمين، إن قتل يريد من حساب دية مجوس الدين الذي ارتد إليه على ما تقدم في المسألة التي قبل هذه من الاختلاف في ذلك، ومن لا يرى في المرتد الذي قتل دية، وهو قول سحنون، وأحد قولي أشهب، فلا دية على جارحه في جرحه إذا قتل، وأما إن تاب فجراحاته على حساب الدين الذي ارتد إليه قاله سحنون، ولا أعرف في هذا نص خلاف.

.مسألة الولاء للمسلمين:

قلت له: أرأيت ولاء من أعتق من عبيده المسلمين، أيثبت له إذا تاب ولزمه إمضاء عتقهم؟ قال: الولاء للمسلمين؛ لأنه أعتقهم حين لم يكن يثبت له ولاء من أعتق من المسلمين، وكذلك من كاتب من المسلمين إذا أدى ما كوتب به، فولاؤه للمسلمين إذا أدى ما كوتب به فهو للمسلمين، وإن عجز رق له، والكتابة تمضي عليه إذا تاب، وترد إن قتل، قيل له: فالتدبير؟ قال: إذا تاب مضى، وإن قتل رد ولم يجز تدبيره.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيما دبر المرتد قبل ارتداده، أو أولد من إمائه، أو أعتق إلى أجل من رقيقه، أو كاتب في أن ذلك يمضي على المرتد، وإن قتل أو مات في ردته، فتمضي الكتابة على كتابته، ويعتق المعتق إلى أجل إلى أجله، ويعتق المدبر من ثلثه وأم الولد من رأس ماله، ويكون ولاؤهم له إن تاب، ولعصبته من المسلمين إن قتل أو مات على ردته، وقال أشهب: إن مات أو قتل على ردته فولاؤه لجماعة المسلمين، دون مسلمي ولده، قال محمد بن المواز: وقول ابن القاسم أحب إلينا؛ لأنه عقد كان منه في إسلامه وأما وصاياه التي له الرجوع عنها، فلا تجوز ولا تنفذ إن قتل أو مات في ردته، فإن رجع إلى الإسلام جازت وصاياه.
واختلف في أمهات الأولاد فقال ابن القاسم: يرجع إلى وطئهن، وقال أشهب: قد عتقن بارتداده، ولا يرجعن إليه، واختلف فيما فعل من ذلك كله بعد الردة قبل أن يحجر عليه في ماله بنفس ارتداده، فقيل: إن ذلك لا يجوز إن قتل أو مات على ردته، ويبطل تدبيره وعتقه المؤجل وكتابته، ويسترق ما استولد من الإماء، وهو قول أشهب ومذهب سحنون، ومذهب ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأنه قال: إن ذلك يرد كله إن قتل، ويمضي إذا تاب وراجع الإسلام، فيعتق المدبر من ثلثه، ويمضي العتق المؤجل إلى أجله، وتمضي الكتابة على سنتها، ويكون ولاؤهم للمسلمين، وأما أمهات أولاده فيرجع إلى وطئهن على مذهب ابن القاسم، خلاف قول أشهب على ما تقدم، وأما إن فعل ذلك بعد الحجر، فلا يجوز باتفاق إن قتل، واختلف إن تاب وراجع الإسلام، فقيل: إن ذلك لا يجوز أيضا، وقيل: إنه يجوز، وهو اختيار محمد بن المواز.